إرث الاستعمار الغربي- مذابح فلسطين امتداد لعقود من القمع والنهب

المؤلف: المهدي عزوز08.11.2025
إرث الاستعمار الغربي- مذابح فلسطين امتداد لعقود من القمع والنهب

كم هي متطابقة مجازر الاحتلال الصهيوني البشعة في ربوع فلسطين مع تلك المذابح التي ارتكبتها قوى الاستعمار الغربي أينما حلت ونزلت. فمأساة جباليا ليست فريدة في سجلات التاريخ المروعة، بل يزخر الماضي بمثيلاتها، كمذبحة الكُفرة المروعة في ليبيا عام 1931، ومذبحة تازركة الدامية في تونس عام 1952، بالإضافة إلى مجزرة 8 مايو/أيار 1945 الرهيبة في الجزائر الثائرة، والقائمة تطول وتتسع.

إنها مجازر شنيعة نفذتها يد الرجل الأبيض الغربي بدم بارد وبلا رحمة، وامتدت آثارها المدمرة في أصقاع العالم العربي. وفي فلسطين العزيزة، لم تكن الصهيونية إلا تجسيدًا واقعيًا وامتدادًا عضويًا للغرب المتوحش، حيث أزهقت الأرواح ودمرت المنازل وهُجّر السكان قسرًا. وفي كلا الحالتين، كان القتل حليفًا للغرب "المتحضر" – منذ الإرث اليوناني القديم وصولًا إلى فلسفة هابرماس المعاصرة – مدعومًا بعقيدة راسخة أو عقلية جاهزة لتبرير أبشع الجرائم.

تؤكد الحقائق التاريخية الدامغة أن الحضارة الغربية قامت بالأساس على الصدام والتناحر، وأن العقل كان أداة لتسويغ القوة الغاشمة والعنف المفرط وادعاء التفوق الزائف. ولقد دفعت الإنسانية جمعاء ثمنًا باهظًا جرّاء هذا الادعاء المتعجرف.

موراليس وصوت من العالم المقهور

يكفي أن نصغي إلى كلمات إيفو موراليس، الرئيس البوليفي المنتخب المنحدر من قبائل الهنود الحمر الأصيلة، أولئك الذين كانوا اختبارًا حقيقيًا للأخلاق الغربية الأنجلوسكسونية المهاجرة، وهو يعلن بلسان فصيح: "لقد نهب اﻷميركيّون خيراتنا وثرواتنا، وقتلوا منا من أرادوا قتله، وحققوا بذلك الثروات الطائلة، وتركوا اﻷحياء يعانون الفقر المدقع ويتضورون جوعًا… ولكن اﻵن ثروات بوليفيا هي ملك لأبنائها".

وإذا ما تحدث زعيم أفريقي بكلمات مماثلة، لقال: لقد استنزف الغرب ثرواتنا ومواردنا، وأهلك شبابنا، وجوّع أطفالنا الأبرياء، وساقنا كالعبيد لبناء صرح حضارة لن تُكتب أسماؤنا عليها، لا نحن ولا آباؤنا ولا أبناؤنا، في مزارع القطن الشاسعة في أميركا الشمالية، أو في حقول الكاكاو الغنية في البرازيل، أو في صناعة السكر المزدهرة في كوبا.

وفي الجزء اﻵسيوي من العالم، وتحديدًا في الهند الهولندية، مارست اﻹدارة الاستعمارية أبشع صور الاستعباد والاستغلال، وخاصة في إندونيسيا، تمامًا كما فعل الإنجليز في الهند التي رزحت تحت وطأة المجاعة القاسية.

وهكذا ترسخت أركان الحضارة الحديثة على إبادة الهنود الحمر، واصطياد العبيد السود، والشراهة المفرطة في استنزاف مقدرات اﻷرض والإنسانية، تلك المقدرات التي كانت بمثابة المحرك الرئيسي لدواليب الحضارة الغربية. إنه محضر إدانة موثق لعقود طويلة مظلمة من الزمن، كان الغرب فيها أقل تسامحًا ورحمة، وكانت الولايات المتّحدة اﻷميركيّة، المنبثقة من صلبه، تُبْنَى على جماجم الأبرياء ودماء الضحايا.

باسكال بروكنر وعقيدة الاستعلاء

لم يخفِ بعض المثقفين الغربيين هذه الحقائق المرة. فبإزاء عنوان فرعي تحت اسم "الجرثومة اليانكية"، تقول باسكال بروكنر: "ولكن أميركا مُثقلة بكل العلامات التي تُعرف بها ذنوب الغرب: فهي تجمع إلى الغنى الفاحش عدم المساواة الفادح، كما أنها مُهيمنة ومتعجرفة وملوثة، ومؤسسة على جريمة مزدوجة قوامها إبادة الهنود الحمر واسترقاق السود، ولا تزدهر إلا بتهديد المدافع، ولا تهتم بالمؤسسات الدولية، كما أنها متجهة بكاملها نحو عبادة الورقة الخضراء، ذلك الدين الأوحد في هذا البلد المادي".

ويجد ذلك المحضر قرائن الإثبات التاريخي في تلك التصورات الجنينية التي كوّنها اﻷميركيون اﻷوائل – أولئك "الأجداد المسافرون" – عن أنفسهم وعن العالم المحيط بهم.

لقد كانوا أمناء أو ورثة لأصولهم البريطانية الأنجلوسكسونية المتجذرة. ومن ذلك الميراث المشؤوم ما أصدرته الجمعية البريطانية في عام 1703 في شكل قانون ينص صراحة على دفع مكافأة مالية قدرها 40 جنيهًا إسترلينيًا عن كل فروة رأس مسلوخة لهندي أحمر، أو عن كل أسير هندي.

وقررت الجمعية نفسها زيادة قيمة المكافأة في عام 1774 لتصل إلى 100 جنيه إسترليني عن كل رأس رجل، و55 جنيهًا عن كل رأس امرأة أو طفل من الهنود الحمر. وكأنّ قتل الذات البشرية البريئة قد تحول إلى مصدر للرزق ومدخلًا لاستيعاب العاطلين عن العمل.

وهناك على الأرض الجديدة، حين كانوا يصطدمون بالسكان الأصليين أصحاب الأرض، كان اللاهوتيون الإسبان ينزعون عنهم صفتهم الإنسانية السامية، زاعمين أنهم غارقون في الخطيئة والضلال، وبالتالي لا يمكن أن تكون لهم سلطة على الأشياء، ولا يحق لهم التملك، ولا يمكن لهم أن يكونوا أحرارًا. لقد اقتضت تلك الرؤية الإنجيلية المتطرفة تجريدهم الكامل من ملكياتهم وممتلكاتهم، تمامًا كما اقتضت مصادرة حرياتهم واسترقاقهم.

إن الإنسان – في نظرهم – فوق الطبيعة، والبالغون فوق الأطفال، والمسيحيون فوق غير المسيحيين، والبيض فوق الملونين، والثقافة الغربية فوق الثقافات غير الغربية، وأميركا فوق بقية الأمم والشعوب. فمن يجرؤ بعد ذلك على معارضة منطق العصر الجديد؟

يقول البروفيسور رونالد دافيس Ronald Davis وهو يكشف النقاب عن أحد فصول تلك المأساة الإنسانية: "لا نبالغ على الإطلاق حين نقول إن الأرباح الطائلة التي نتجت عن نظام وتجارة الرقيق البغيضة من عام 1600 وحتى عام 1860 قد ساهمت إلى حد كبير في بروز الغرب في غرب أوروبا والولايات المتّحدة كقوى مهيمنة ومسيطرة على العالم بأسره".

لقد بُنيت أسطورة الغرب الزائفة على الجماجم والدماء. وشُيدت الحضارة الغربية على أسس العنف والمنفعة واللذة. وأصبح القتل عندهم رسالة تنويرية مقدسة، والقتلة رسلًا للحرية والتحضر.

إنه عين ما عبر عنه الصحفي والكاتب اﻷميركي كيمان ألوت حين قال بوضوح: "إن وظيفة الجنس اﻷنجلوساكسوني تكمن في منح الحضارة لشعوب العالم غير المتحضرة، وإننا ننكر على أي شعب بربري أن يبقى في حوزته أي جزء من اﻷرض".

ويكتب روجيه غارودي ناقلًا لكلام جول فري Jules Ferry: "إن تأسيس مستعمرة جديدة يعني بالضرورة إنشاء سوق جديدة". ويضيف فري أمام البرلمان الفرنسي: "يجب أن نقولها بصراحة وجرأة، إن للأعراق العليا حقًا طبيعيًا وعمليًا على الأعراق الدنيا…". ثم يعلق روجيه غارودي بعد ذلك قائلًا: "إن هذه الأصولية الغربية اللاواعية والمميتة التي تُستخدم منذ خمسة قرون كمبرر أيديولوجي لكل تجاوزات الاستعمار، إنما تلعب مرة أخرى دورها اللعين في آخر المغامرات الاستعمارية في التاريخ".

فكأن العنف والهيمنة في نهاية المطاف ليسا إلا مقاربة علمية، أو مصادرة فلسفية للعقلانية الغربية، وكأن العقل هو المؤسس الحقيقي للاستعمار والاستغلال. فهو الذي يصنع القاتل، وهو الذي يصنع القتيل أيضًا. خاصة وقد ترسخ في كبريات الدوائر السياسية والأكاديمية ذلك الاعتقاد المقدس بالتميز والتفوق والنقاء.

تلك القيم التي تقابلها قيم التخلف والتعصب والانحطاط على الضفة الأخرى. ولن يكون الاختلاف في هذه الحالة مقدمة للتنوع والاعتراف المتبادل، أو للتثاقف الحضاري والسلم الدولي، بل سيكون مبررًا للعلاقات الاستعمارية أو التبعية المطلقة. إنها قوانين الغالب حين يجريها على المغلوب.

هنا يجد موقف موراليس الصريح مبرراته القوية. كما يجد مبررات أخرى في تلك الإعلانات الممجوجة عن تفوق من نوع خاص يدّعيه الغرب عمومًا والأميركيون على وجه الخصوص لأنفسهم. وذلك التفوق الزائف يبرر في نظرهم حقهم المطلق في الحكم والتملك.

فمن هيرمان ملفيل إلى مادلين أولبرايت، تُنبري الديباجة نفسها، وإن اختلف عرضها البلاغي، فهم الأقوى والأكثر نقاءً والأحق بالحياة الأفضل. فمع بداية القرن التاسع عشر، كان الروائي اﻷميركي هيرمان ملفيل يقول بكل ثقة: "نحن رواد هذا العالم وطلائعه، لقد اختارنا الرّبّ بأنفسه… والإنسانيّة جمعاء تتطلع إلى سلالتنا وتنتظر منّا الكثير… لقد بات على أكثر اﻷمم أن تحتل المؤخرة، بينما نحن الطليعة، ننطلق إلى البريّة لنقدّم ما لم يستطع أن يقدّمه اﻷوائل". والمسألة عند السّيّاسيّين أكثر وضوحًا وأدقّ تفصيلًا بكثير.

لقد كان ثيودور روزفلت (1858-1911) يؤكد قائلًا: "إنّ أمركة العالم بأكمله هو مصير أمّتنا المحتوم وقدرها الذي لا مفر منه". وبعد الحرب العالميّة الثانية المدمرة، كان ترومان يتفاخر بالقول: "العالم الآن أصبح في قبضة أيدينا". وكما يقول جاك براسول: "إذا كان حجم الكعكة لا يزال هو نفسه في أذهان النّاس، فالحل الوحيد والفعال كي تضاعف من حصّتك هو أن تأخذ قسطًا من (نصيب) الجيران".

بعد هذا التنقيب المتواضع في تجليات الحضارة الغربية، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة، تبدو لنا تلك الحضارة، من خلال الشواهد التاريخيّة التي لا يمكن حصرها أو إحصاؤها، حضارة تفكيكية بامتياز. وتتجلى الخطورة القصوى في اعتماد ذلك المسلك مطبقًا على اﻷشياء الحية، كالإنسان أو اﻷسرة أو اﻷمّة، ففي تلك الحالة سيؤدي حتمًا إلى استباحة الاستعباد المطلق والسيطرة الكاملة.

وأيًّا كانت المسارات التي راكمتها الفلسفة الغربيّة عبر العصور، فقد وجدت تجلياتها النّهائيّة – مثلما يرى أحمد داوود أوغلو – في أزمة حضاريّة كاسحة، تبدّت من خلال "الاختلالات المفاهيميّة والمؤسسيّة التي انتابت علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة"، لتنعكس في بعدها السّيّاسي في ضيق أفق الدّولة القوميّة، وتنعكس في بعدها الإستراتيجي في انسداد أفق النّظام العالمي.

وإذا كان ضيق أفق المفهوم الغربي للدّولة القوميّة قد استبطن عقلية الاحتراب بوصفها ضرورة وجودية لتشكل الدولة، فكانت حروب فرنسا النابوليونية، وألمانيا الإمبراطوريّة أو ألمانيا الاشتراكية القوميّة، وكانت الصّهيونيّة، فإن ضيق أفق المفهوم الغربي للنّظام العالمي قد تردّى في ممارسة الهيمنة والاستيلاء على مقدرات الشعوب، والاستعمار على أوسع نطاق، وخاصة في صورته الأنجلو- أميركية القبيحة.

وربّما بسبب ذلك، أصبح الاتّجاه العام للوجود الإنساني في نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الجديد يتجه نحو تبني مفهوم أكثر جذرية للرد على العجز البنيوي للحداثة الغربية في الفكر وفي الممارسة. وذلك في زمن لم تستطع فيه التيّارات النقديّة من داخل النّسق الحداثي الغربي نفسه أن تتجاوز البعد الإصلاحي في نقدها. ولا شك على الإطلاق في أن لتلك الفلسفة العميقة أثرها البالغ في توازنات العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة